هل اليمن مستعد لاقتصاد السوق الاجتماعي؟

شارك

[addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_pvdf"]

 كتب: عبد الوهاب الكبيسي
في 6 أغسطس 2013

 هذه المدونة مترجمة عن الأصل باللغة الإنجليزية: Is Yemen Ready for a Social Market Economy?

 مر عامان على اجتياح المحتجين الساخطين للشوارع في اليمن، للإطاحة بالرئيس الذي كان في السلطة وقتذاك، علي عبد الله صالح، ولكن الغبار لم ينقشع بعد. وهاهو مؤتمر الحوار الوطني، الذي استمر لستة أشهر، وحضره 565 مندوبًا من مختلف الفصائل اليمنية، يرسي أخيرًا مجموعة المبادئ التي سيقوم عليها الدستور الجديد للبلاد. وبينما هناك يمن جديد تجري صياغته الآن، يتساءل المستثمرون الأجانب عن مستقبل اقتصاد اليمن المنهك.

حدث في منتدى اقتصادي عُقد قبل "الصحوة العربية" بشهور أن قال أحد وزراء الاقتصاد السابقين في اليمن: "إن الاعتماد على نظام اقتصاد السوق الاجتماعي أثبت نجاحه في عدد من البلدان ذات الظروف الشبيهة باليمن"، وقدم المتحدث تصورًا لنظام يتطلب أن تضطلع الدولة بدور أكبر في السوق، مع توفير الرعاية الصحية وإعانات البطالة، وغيرها من برامج الرعاية الاجتماعية. لكن هل يعتبر اقتصاد السوق الاجتماعي نظامًا قابلاً للحياة في اليمن؟

لعبت الدولة في العالم العربي دورًا مسيطرًا في الشئون الاقتصادية منذ الخمسينيات، ففي البلدان ذات النظم الملكية أو الجمهورية على السواء، جمعت الدولة الإيرادات النفطية، واعتمدت على المعونة الخارجية، وتوسعت في برامج الرعاية الاجتماعية. ومع زيادة اعتماد الناس على المساعدات الحكومية، تضخم القطاع العام في العالم العربي، وظهرت عليه أعراض الفساد وانعدام الكفاءة البيروقراطية. وهكذا جاء العقد الاجتماعي العربي (الإقصاء السياسي مقابل الرعاية الاجتماعية) على حساب نمو القطاع الخاص والديمقراطية، والأهم: كرامة الشعب. وأخيرًا انتفض الشعب متحديًا، وها هي الشعوب العربية تحاسب مسئوليها الآن.

اعتمد اليمن طوال العقدين الماضيين على صادرات النفط والمعونة الأجنبية -وهو ما يطلق عليه المشتغلون بالاقتصاد السياسي "الريع"- للتوسع في القطاع العام وتمويل برامج الرخاء الاجتماعي، لكن النفط اليمني آخذ في النفاد لسوء الحظ، ويتوقع البنك الدولي نضوب احتياطيات النفط اليمني عام 2017. وحتى يعمل اقتصاد السوق الاجتماعي في اليمن، تحتاج الحكومة إلى مصادر مستدامة للإيرادات.

إن بلدان الشمال الأوروبي قد تعهدت بالإبقاء على مواطنيها أغنياء وسعداء وأصحاء، لكن الأمر الأكثر أهمية هو امتلاك تلك البلدان للوسائل اللازمة لتحقيق ذلك. وقد تمتعت النرويج خلال السنوات الثلاث الماضية بلقب البلد الأكثر رفاهية في العالم، حسب مؤشر ليجاتوم للرفاهية عام 2012. ويتم الترتيب في هذا المؤشر على أساس مستوى الفرص الاقتصادية المتاحة في 142 بلدًا تحلل بياناتها بانتظام، وينقسم المؤشر إلى ثمانية تصنيفات فرعية مختلفة تشمل: الاقتصاد، وريادية الأعمال والفرص المتاحة، والحوكمة، والتعليم، والصحة، والسلامة والأمن، والحرية الشخصية، ورأس المال الاجتماعي. وقد احتلت الدنمارك والسويد المركزين الثاني والثالث وفق هذا المؤشر، بينما احتل اليمن المركز الـ134.

ويرجع تقدم النرويج والدنمارك والسويد على هذا المؤشر إلى سخاء واتساع برامج الرعاية الاجتماعية، لكن هذه البرامج لم تأتِ من فراغ. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر ظلت السياسات الاجتماعية الإسكندنافية تُصاغ في إطار عمليات سياسية إدماجية وديمقراطية. وفي بداية الأمر عمل صناع السياسات هناك على تجربة سياسات متواضعة تركز على التعليم والبنية التحتية.

مع نمو الفرص الاقتصادية واتساع القطاع الخاص، أصبحت السياسات الاجتماعية أكثر شمولاً، حيث عُززت بقاعدة ضريبية أكبر. وفوق هذا اتسم صناع السياسات الإسكندينافيون بالنزعة العملية، والاستعداد للمحاسبة، والحساسية لمطالب دافعي الضرائب. فقد أصبحوا أكثر استجابة للأوجاع الاقتصادية وتصدوا للتعامل مع التحديات البنيوية بإدخال إصلاحات اقتصادية جريئة كلما كان هذا ضروريًّا.

ورغم استحالة نسخ منظومة الرعاية الاجتماعية الإسكندينافية في اليمن، فإن هناك دروسًا يمكن استخلاصها من خبرة هذه البلدان.

أولا: لقد بُنيت المنظومة الإسكندنافية على أساس سليم من السياسات الإدماجية والحوكمة المحلية القوية. واستمع صناع السياسات لمطالب الشعب، وتشاوروا جيدًا حول السياسات المقترحة قبل التوصل إلى التوافق وتطبيق البرامج.

ثانيًا: ينبغي تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع أولاً (مثل التعليم، والرعاية الصحية، وإصحاح البيئة) قبل إقامة منظومة واسعة النطاق للرعاية الاجتماعية. وفي ظل محدودية الموارد والزمن يجب على الحكومة أن تمنح مواطنيها فرصة الارتقاء بأحوالهم المعيشية إلى أقصى قدر ممكن.

ثالثًا: ينبغي في المقام الأول الاهتمام بالقطاع الخاص، من أجل تحفيز النمو الاقتصادي المستدام. وهو ما يتطلب في اليمن-مثل أي مكان آخر- قيام مجموعة من المؤسسات القانونية والتنظيمية التي يمكن أن تعزز نموًّا يقوده القطاع الخاص، وتشجع البدء في مشروعات أعمال جديدة.

إنني على اقتناع كامل بمسئولية الحكومات عن رعاية مواطنيها، وتوفير شبكات الأمان لمن يحتاجون للمساعدة. فمن المؤكد أن رخاء المجتمع يأتي في قمة الأولويات.

غير أن آرائي تختلف عن آراء وزير الاقتصاد اليمني فيما يتعلق بدور الدولة في السوق، فبينما هو يؤمن باضطلاع الدولة بتنفيذ برنامج رعاية اجتماعية شامل، أزعم أنا أن هذا ليس الوقت المناسب لتحميل الحكومة المزيد من المسئوليات. ومن أجل خلق الملايين من فرص العمل المطلوبة بشدة، وجعل الحكومة أكثر شفافية وقابلية للمحاسبة، ينبغي استهداف خفض حجم القطاع العام. ومن أجل إطلاق طاقات وإبداع الشعب اليمني، ينبغي أن تتيح الحكومة طريق النمو أمام القطاع الخاص.

ويبدو أن اليمن يسير على الطريق الصحيح نحو الإدماج السياسي مع استمرار مؤتمر الحوار الوطني، وما يحتاجه اليمن بعد هذا الاستثمارات في منظومة تعليمية تدعم التفكير الابتكاري. يشدد الدكتور روبرت ليتان في كتاب "الرأسمالية الطيبة والرأسمالية الخبيثة" -الصادر عن مؤسسة كوفمان- على الحاجة إلى "رأسمالية ريادية الأعمال"، وهي نوع من اقتصاد السوق الحر يشجع على الابتكار والمبادرة بالأعمال الجديدة، وتعد مشروعات رياديي الأعمال بمثابة قاطرة النمو الاقتصادي. وعندما ينمو القطاع الخاص وينضج ستتكون بشكل طبيعي قاعدة ضريبية داعمة لبرامج الرعاية الاجتماعية.

لقد نالت منظومة الرعاية الاجتماعية الإسكندينافية الكثير من الإعجاب عن حق، ولكن ينبغي أن يفهم صناع السياسات في اليمن أن منظومة الرعاية الاجتماعية تُبنى بثبات على مدى طويل من الزمن. وينبغي ألا تتحمل الدولة اليمنية الجديدة المسئولية الكاملة عن إنقاذ الاقتصاد من هاوية الانهيار، فبمجرد النجاح في إرساء اقتصاد سوق حر، سيمتلك القطاع العام الوسائل والأدوات الضرورية للاقتداء بالمسيرة الإسكندنافية. ومثلما تجري الأمور في الحوار السياسي الدائر حاليًا فإن رؤية وزير الاقتصاد اليمني لمنظومة السوق الاجتماعي سوف تأخذ وقتًا طويلاً.

Hello World!

TOP