كتب: محمد الزعيم - اخصائي البحوث والدراسات
صندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري - وزارة الإسكان
في قلب القاهرة، تنبض الحياة بإيقاع متسارع، تمامًا كما تتسارع عجلة التنمية في مصر. لكن خلف واجهة التقدم الظاهري، تكمن أزمة خفية تهدد بتقويض أحلام الدولة الطموحة في أن تصبح أحد أهم الدول الصناعية في المنطقة وهي مشكلة نقص العمالة الماهرة في هذا القطاع.
لنتخيل مصر كآلة ضخمة، قطاعها الصناعي هو محركها الرئيسي، يدفع عجلة التنمية بقوة 17% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوظف 15% من القوى العاملة. لكن هذه الآلة تعاني من خلل في تروسها حيث 15% فقط من عمالها يمتلكون المهارات اللازمة، هذا يعني أن 85% من القوى العاملة في القطاع الصناعي تفتقر إلى المهارات الضرورية. هذا النقص ليس مجرد رقم على الورق بل هو كابوس اقتصادي يكلف الدولة المصرية مليارات الدولارات سنويًا، حيث أن 46% من الشركات المصرية تعاني من نقص في المهارات المطلوبة مما يجعل الأمر أشبه بجيش من الجنود بدون أسلحة، يواجهون معركة اقتصادية شرسة.
لنتعمق أكثر في الأرقام: 80% من الوظائف الصناعية الجديدة في مصر تتطلب مهارات تقنية متخصصة، وفي المقابل نجد أنه 20% فقط من خريجي مؤسسات التعليم والتدريب المهني يمتلكون هذه المهارات، وهذه الفجوة الهائلة تترجم إلى معدل بطالة مرتفع بين الشباب، بلغ 25% في عام 2023. لكن الصورة ليست قاتمة تمامًا فمصر تمتلك ثروة بشرية هائلة فحوالي 200 ألف طالب يتخرجون من التعليم الفني كل عام وفي ذات الوقت يحتاج القطاع الصناعي إلى 500 ألف عامل سنويًا وهذا العجز يشكل تحديًا وفرصة في آن واحد.
لنلقِ نظرة على البنية التحتية للتعليم الفني في مصر فحسب اخر احصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء في عام 2023، كان هناك 3,151 مدرسة حكومية للتعليم الفني، منها 1,690 مدرسة صناعية و325 زراعية و954 تجارية و145 فندقية و38 تكنولوجية. في المقابل، هناك 10,450 مدرسة خاصة، منها 7,200 مدرسة صناعية. هذه الأرقام تبدو مبهرة، لكنها تخفي تحديًا آخر وهو التوزيع الجغرافي غير المتوازن، فمعظم هذه المؤسسات تتركز في محافظات القاهرة الكبرى والإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد، تاركةً مناطق أخرى في البلاد محرومة من فرص التعليم الفني الجيد خاصة في صعيد مصر.
والمفارقة الأكبر تكمن في التكلفة والعائد لتلك الأرقام، فبينما تبلغ تكلفة إنشاء مدرسة فنية متكاملة في مصر حوالي 100 مليون جنيه مصري، وكذلك تكلفة التشغيل السنوية التي تتراوح بين 15 و20 مليون جنيه مصري، حسب حجم المدرسة وتخصصها، فإن التعليم الفني يلعب دورًا حيويًا في دعم الاقتصاد المصري، حيث يسهم العامل الماهر في القطاع الصناعي بزيادة في الإنتاجية تقدر بنحو 30% مقارنة بالعامل غير الماهر، وفقًا لدراسة أجرتها منظمة العمل الدولية. فضلاً عن تمتع خريجو التعليم الفني بمعدل توظيف أعلى بنسبة 15% مقارنة بخريجي التعليم العام، مما يساهم في خفض معدلات البطالة. هذه الأرقام تؤكد أن الاستثمار في التعليم الفني هو استثمار رابح بكل المقاييس. لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تحقيق التوازن بين جهود القطاع الحكومي والخاص ومنظمات المجتمع المدني.
في ضوء هذه الحقائق والأرقام، نستطيع إبراز مجموعة من التوصيات الحيوية التي من الممكن أن تساهم في معالجة هذا التحدي الخطير الذي يقف عقبة أمام قطار التنمية الصناعية في مصر تتمثل أبرز تلك التوصيات في ضرورة تعزيز التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص في مجال التعليم الفني، مع وضع أطر تنظيمية واضحة مع زيادة الإنفاق الحكومي على التعليم الفني، والتركيز على تحسين جودة التعليم وزيادة فرص الالتحاق. كذلك ربط التعليم الفني بسوق العمل بشكل أوثق، من خلال تطوير المناهج وبرامج التدريب لتلبية احتياجات السوق المتغيرة.
ومن ناحية أخرى يجب تقديم حوافز ضريبية وإعانات مالية للشركات التي توظف خريجي المدارس الفنية، والتعاون مع المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية لجلب أفضل الممارسات والخبرات في مجال التعليم الفني، والعمل على تغيير النظرة المجتمعية للتعليم الفني، من خلال حملات توعية وبرامج إعلامية تبرز أهمية المهن الفنية والحرفية.
في النهاية، تقف مصر على مفترق طرق حاسم، إما أن تنجح في تحويل تحدي نقص العمالة الماهرة إلى فرصة ذهبية للنهوض بقطاعها الصناعي، أو أن تظل أسيرة لدوامة البطالة والركود الاقتصادي الذي نعيش فيهم لعقود. المعركة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة؛ فبالتخطيط السليم، والتنفيذ الدقيق، والتعاون الوثيق بين جميع الأطراف المعنية، يمكن لمصر أن تحول هذا التحدي إلى قصة نجاح تُلهم الأجيال القادمة.
* الآراء الواردة بالمقال تعبرعن رأي كاتبه، ولا تعكس بالضرورة عن رؤية مركز المشروعات الدولية الخاصة