كتب: سيف الخوانكي
مسئول برامج بمركز المشروعات الدولية الخاصة
أتذكر وأنا بصدد إعداد الورقة الأخيرة في دراستي الجامعية أني كنت شديد الاقتناع بمقولة محمد يونس، مؤسس بنك جرامين، الشهيرة حول أنه سيأتي يوماً ليكون مكان الفقر هو المتاحف.
لقد تعددت الطرق والسياسات العامة ولكن الهدف واحد وهو حياة كريمة للمواطنين وإن كنت أرى أن السبيل لتحقيق ذلك هو فتح المجال العام أمام المبادرات الريادية وبناء مناخ استثماري عادل يعرف فيه المستثمرين والمواطنين والعمال والموظفين حقوقهم وواجباتهم.
ولكن مع الوقت اتضح لي أكثر أن الممارسة بدون نظرية عمياء، والنظرية بدون ممارسة جوفاء. وخلال السنوات القليلة التي اشتبكت بها في عملية الإصلاح، هناك عدة دروس هامة تعلمتها وأود أن أشاركها.
1- العمل في مجال السياسات العامة نتائجه صعب حصرها بمحددات قصيرة المدى
على عكس المجالات الأخرى كالهندسة والمحاسبة والتجارة والصناعة والطب، فإن العمل على السياسات العامة نتائجه ليست فورية، فهي ليست حسبة ميكانيكية، فعلى سبيل المثال دعم ريادية الأعمال في بلد مثل مصر لا يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها في ظل ساحة اقتصادية يصعب فيها المشاركة في السوق وتفتقد لآلية عادلة للإفلاس أو الخروج من السوق، كما تغيب أدوات حقيقية للتمويل بالإضافة إلى تردي مستوى التعليم. ولكن ما لا يؤخذ كله لا يترك جله!! ويجب أن تكون هناك بداية ما. استمرارية العمل ودق شاكوش الإصلاح بلا ملل مفعوله كمفعول ضربة المطرقة. وضع ريادية الأعمال في مصر الآن -وإن كان لا يلبي العديد من الطموحات -أفضل بكثير من عدة سنوات مضت. فهناك قدر من المعرفة بمفهوم الريادية وربطه بالإصلاح المؤسسي وهناك مبادرات جيدة تظهر كل يوم كلها سوف تؤدي في النهاية إلى تغيير تراكمي.
خلاصة القول أن العمل في السياسات العامة هو عمل تراكمي لا يمكن قياسه بمؤشرات قصيرة المدى فلا داعي للإحباط، ولكن دائماً يكون التحدي هو قياس الأثر والتقييم لتطوير استراتيجيات الإصلاح حتى لا نكرر نفس الأخطاء ونتوقع نتائج مختلفة.
2- العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن ينعكس على جميع جوانب الحياة ومنها الاقتصاد
المواطنة ليست مفهوم سياسي فقط، بل هي جوهر عملية الإصلاح الاقتصادي، بمعنى أنه في بعض الدول النامية مثل مصر تجد أن العقد الاجتماعي يقوم على الرعاية وليس المواطنة بحيث تدعم الدولة المواطنين في المأكل والمعيشة والصحة والتعليم مقابل أن يلتزم المواطن بما تمليه عليه الدولة لتكون النتيجة في النهاية نتيجة بائسة على مستوى الخدمات العامة حيث أنه في سبيل تحقيق تلك الصيغة من العقد الاجتماعي تقوم الدولة بتوسيع نشاطها في عملية الانتاج فتؤثر سلباً على نمو القطاع الخاص وعلى خلق فرص للتشغيل والعمل ومع الوقت تزيد نفقات الدولة عن إيراداتها وتتدهور الخدمات العامة ونصبح بصدد أمراض مزمنة تتشابك وتتعقد خيوطها.
أما الدولة التي تقوم على مفهوم المواطنة فنجد أن العقد الاجتماعي جوهره هو الحقوق والواجبات. هذا العقد يفرض على الدولة دور المنظم الكفء واضع القانون والقواعد والمشرف على كفاءة إنفاذ القانون والقواعد بما يضمن أطر مؤسسية لتنظيم التعاملات في السوق مثل قوانين حماية المنافسة ومنع الاحتكار، وحماية المستهلك وغيرها. هي الدولة القادرة على فتح المجال أمام المواطنين للاستثمار وإقامة البيئة التنافسية التي تصعد بمعدلات النمو الاقتصادى. هي الدولة التي لا تترك مواطنيها العاجزين عن العمل نهبا للحاجة وذلك من خلال دعم المواطنين المستحقين للدعم بدلاً من دعم السلعة نفسها بما يفتح أبواب الفساد على مصراعيها. في النهاية هي الدولة القادرة على تحصيل الضرائب من الفئات المستحق عليها الضريبة، فالضريبة قوام منظومة الحقوق والواجبات.
3- لا توجد روشتة واحدة صالحة لكل زمان ومكان
كما وضحنا، فإن عملية الإصلاح شديدة التركيب وبالتالي جزء كبير منها مبني على الخبرات المحلية والتجربة – هذا لا يمنع بالتأكيد من الاستفادة من الخبرات الدولية. ولكن ما قد ينجح في أمريكا اللاتينية لا ينجح بالضرورة في شرق آسيا. الخبرات المحلية ورأس المال الاجتماعي يجب أن يكونا محددان أساسيان لأي استراتيجية إصلاح. في ملف مثل ملف القطاع غير الرسمي في مصر-على سبيل المثال-تقول الروشتة أن الحل هو تسجيل جميع المنشآت العاملة في القطاع غير الرسمي لتحسين المؤشرات الاقتصادية. ولكن التجربة العملية تقول أن أزمة القطاع غير الرسمي في مصر ليس في التسجيل، بل في ظاهرة أشد خطورة وهي المؤسسات الموازية؛ مؤسسات موازية في مختلف المجالات ومنها التعليم والصحة والنقل وكذلك الاقتصاد، فأي إصلاح دون استيعاب كيفية احتواء المؤسسات الموازية سوف يكون كالنحت على الماء. وبالمناسبة ليست كل الممارسات في المؤسسات الموازية سيئة فمنها الحميد ومنها الخبيث؛ أما الحميد فيجب تقنينه والاستفادة منه في المجال الرسمي وأما الخبيث فعلينا مواجهته أحيانا بالعقوبات والإيقاف وأحيانا كثيرة بالحوافز.
في النهاية، إن أردنا أن نلخص هذه الدروس المستفادة في عبارة واحدة فهي: "المؤسسات هي الحل" وبناء المؤسسات هو عملية طويلة المدى لا تنحصر فقط في تغيير السياسات العامة بل أيضاَ تغيير الممارسات بالإضافة إلى أخذ البنية الاجتماعية في الاعتبار.