يمكننا وبدون تردد أن نتنبأ ان الحكومات والشركات والمشكلات ذات البعد الاجتماعي ستنمو حجما وتزداد تعقيدا في السنوات القادمة. ولذا يتحتم على المجتمع الدولي، إن أراد النجاح في التعامل مع الاوضاع الاجتماعية التي تزعزع الاستقرار، أن يسلك اسلوبا جديدا في النظر للعلاقة بين الحكومة والقطاع الخاص ، ينقلنا من مرحلة الشك التي شابها في كثير من الاحيان مواقف عدائية، الى مرحلة "الاتفاق على التعاون" بما يتوافق مع القرن الواحد وعشرين.
لقد تأسست هذه القناعة من ادراكنا بأن الانتشار العالمي للبطالة وانخفاض مستويات التعليم والهجرة والسخط الاجتماعي وما إلى ذلك من ظواهر، هي تحديات أكبر كثيرا من قدرة الحكومات او القطاع الخاص على حلها بصورة منفردة، فنطاق تلك التحديات التي لا تعرف حدودا جغرافية قد تحمل نتائج بالغة الأثر. وإن كانت المجتمعات والدول تريد المحافظة على استقرارها وتوفير حياة لائقة لمواطنيها، يجب ان تدرك الحكومات والقطاع الخاص احتياج كل منهما للآخر بصورة حقيقية وليس بعبارات جوفاء لا تترجم بفعل على ارض الواقع.
ما هي الحاجة لتلك العلاقة الجديدة، علاقة الاتفاق على التعاون؟ ينبع هذا الاحتياج مما نراه في ارض الواقع من أن معظم العالم اليوم إما ساخط على اوضاعه، أو غير مستقر، او يسوده العنف ، هذا الواقع أصبح علة تسود العالم تنبع من أوضاع اقتصادية لا يقوم فيها القطاع الخاص بالدور الذي يمكنه القيام به حيث تضعف قدراته بانتشار الفساد او بسياسات حكومية مكبلة لانطلاقه وتكون النتيجة خلق فرص عمل أقل مما نأمل مما يؤدي الى توليد موارد مالية قليلة جدا غير قادرة على تنفيذ البرامج الحكومية مهما كان تواضعها او انخفاض سقف احلامها.
طبقا للبنك الدولي هناك 200 مليون نسمة بدون عمل وطبقا لتقارير منظمة العمل الدولية هناك ما يقرب من 1,4 مليار نسمة يعملون في وظائف لا تناسبهم او في أعمال مؤقتة تحت ظروف عمل رديئة. هؤلاء، وغيرهم الكثيرين، على حافة الاصابة باليأس وخيبة الأمل والسخط الذي يمكن ان ينتشر كانتشار الوباء.
ولا يكمن الحل في خلق وظائف حكومية، فهذا الحل الذي تلجأ له الكثير من الدول لا يتسم بالاستمرارية، بل هو حل غير منتج لأن الوظائف الحكومية لا تخلق الثروات، فلا يحدث نمو اقتصادي حقيقي ولا يتم خلق وظائف حقيقية، وتبقى حصيلة الضرائب ضعيفة قاصرة عن توفير الخدمات العامة بصورة لائقة. بل ان هذا التوسع الاصطناعي في الرواتب الحكومية يؤدي الى تضخم الجهاز البيرواقراطي غير الكفء والمتضخم بالفعل الذي يُشكل عبء كبير على المالية العامة ويشعر المواطنون تجاهه بالغضب بسبب مستوى ادائه الضعيف. فعلى سبيل المثال اُعتبرت اليونان بمثابة الطفل المدلل للاتحاد الاوربي بسبب سوء ادارتها للاقتصاد، فليس هناك عجب اذن ان 25% من القوى العاملة في اليونان تعمل في الحكومة وان تحتل اليونان المرتبة 134 من 137 في مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي من حيث الأداء الحكومي. ولا نقصد هنا بأي حال الاشارة الى ان الحكومات غير مهمة، بل على النقيض من ذلك فالحكومات لها اهمية بالغة فيما يتعلق بالخدمات العامة ووضع القواعد والاجراءات، إنما لم يكن دورها ابدا أن تكون جهة التشغيل الاساسية في اقتصاد ضعيف.
الحلول الحقيقية للنمو والرخاء الاقتصادي تأتي من مصدر واحد هو القطاع الخاص في ظل اقتصاد سوق حر يتسم بالمنافسة. القطاع الخاص هو القاطرة الوحيدة في المجتمع القادرة على خلق وظائف حقيقية والتي تقوم بدفع ضرائب حقيقية وتقوم بانتاج منتجات حقيقية. وفي الدول المتقدمة، هو قاطرة الابتكار والابداع لتحريك عجلة الانتاج والتوظيف وخلق الثروات.
وهنا نؤكد على ان القطاع الخاص يمكنه توفير الانتاج والتوظيف وخلق الثروات بصورة مستمرة فقط من خلال علاقة ديناميكية مع الحكومة بل هناك علاقة من الاعتماد المتبادل بين الحكومات والقطاع الخاص نادرا ما يتم الاعتراف بوجودها.
وفي القرن الواحد وعشرين، نرى ان علاقة الشراكة هذه يجب ان تكون علاقة افقية اكثر منها علاقة رأسية، ففكرة ان الحكومة يمكنها ببساطة ان تضع القواعد والاجراءات دون النظر الى العواقب الاقتصادية، بل في بعض الدول تتجاوز ذلك لتملي قرارات تجارية أو مسارات للاستثمار، لم تعد فكرة صالحة للاستخدام، ولم تكن يوما. هذه حقيقة وإن كانت صادمة، فالحكومات دأبت وبصورة منتظمة على اظهار العجز في حل المشكلات كما يتزايد عدم القدرة على الاعتماد على رؤاها الاقتصادية مقابل شركات صاعدة أكثر تعقيدا في مجال التكنولوجيا مثل الشركات التي تتعامل بالبيانات الضخمة (Big Data) والذكاء الصناعي والمنصات الرقمية والتواصل عبر الانترنت التي اصبحت تقود الاقتصاد العالمي.
وظيفة الحكومة اليوم وغدا هي وضع الهياكل المؤسسية للدولة وادارتها وحمايتها، ولكن دورها الجديد المضاف إلى ذلك هو تمكين القطاع الخاص بصورة فعالة. وبعبارة اخرى يجب ان تكون الحكومات واعية وهي تخلق بيئة قانونية وتنظيمية تشجع الاعمال على الابتكار وتحقيق الربح والتوسع والتشغيل وتغذية سلاسل الامداد وتكرار تلك العمليات الى ما لا نهاية. هذا هو اقتصاد السوق الذي يعد دواء شافيا ولكن هذا الدواء لا يشفي الا اذا قبلت الحكومات حقيقة دورها باعتبارها رقيبا وشريكا لمجتمع الاعمال.
اذا قامت الحكومات بالتوسع في وضع الضوابط، وقد كانت دائما تميل الى ذلك، ووضعت سقفا منخفضا لتمكين قطاع الاعمال، لن يتمكن الاعمال من توفير ما يجب لاقامة مجتمع صحي، فلا يمكنك ان تكبل الفرس وتطلب منه ان يركض اسرع واسرع، خاصة ان لم تكن لديك وسيلة نقل اخرى غير الفرس.
ومع تزايد حدة المشكلات العالمية، اصبحت النغمة السائدة لدى الدوائر الحكومية ودوائر المفكرين هي "على القطاع الخاص ان يقوم بالمزيد" وهذا طموح مشروع ولكنه يجب ان يحيا في بيئة مناسبة لينجح وكلمة "المزيد" يجب تحديدها بعناية. فهناك مقولة قديمة بان "الاعمال تقوم باعمال جيدة، فقط عندما تحقق نتائج جيدة" وهذا بالطبع منطقي. فالشركات التي تعاني سواء كانت صغيرة ام كبيرة، تبذل كل طاقتها للبقاء، أما الشركات الناجحة فتتمتع بالتفاؤل والقدرة الاقتصادية على القيام باعمال تندرج تحت دورها كمواطن صالح.
لا تخطيء الظن بأننا نريد التخلص من القواعد او ممارسة سلوك احتكاري او الاشارة الى رأسمالية المحاسيب القريبة من دوائر الحكم، بل اننا نشير الى انك ان اردت وسيلة مواصلات وليس لديك الا حصان واحد، فعليك تغذيته واعاشته واتخاذ التدابير اللازمة لاطالة عمره وان يعيش سعيدا. وفي المقابل ان كرهت الحصان وعاقبته بدون داع واعطيته غذاء رديئا ورددت أمام جيرانك ان الفرس مخلوق غير مستحب، فستستيقظ ذات صباح لتفاجأ باختفاء الوظيفة.
إن "اتفاق التعاون" مسألة حيوية ويكمن جوهر نجاحها فى فهم ان العلاقة التي نشير إليها بين الحكومة والقطاع الخاص هي علاقة ذو اتجاهين، فالحكومات تحتاج من القطاع الخاص أن يعمل بدرجة كفاءة عالية ليخلق الرخاء المطلوب. والقطاع الخاص ايضا يحتاج الى حكومة ترسم قواعد السير على الطريق من خلال قوانين وقواعد تنظيمية معقولة تضع حدودا واضحة لسلوك الاعمال لضمان المنافسة العادلة والتسويق الصادق والمنتجات الآمنة والبيئة الواقية من الفساد بجميع اشكاله. كما تحتاج الاعمال الى قضاء مستقل يمكنه فض المنازعات وحسمها بصورة عادلة، ولا يمكنها ان تنتج بكفاءة بدون نظام تعليم يوفر عمالة تتمتع بالمهارات التي يحتاج اليها الاقتصاد الوطني.
نكرر اذن ان الحكومة والقطاع الخاص يحتاج كل منهما الى الآخر لخلق مجتمع يتمتع بالرخاء. فكيف في ظل تاريخ من عدم الثقة والشك من قبل اعضاء كل فريق تجاه الاخر يمكن خلق تلك العلاقة الجديدة؟ الاجابة تكمن في: "الحوار".
فيجب على قيادات الاعمال والقيادات الحكومية ان يتحاوروا ويسمع كل منهما الاخر بصورة منتظمة، ويتبادلا الأراء الاقتصادية وتحديد المشكلات ويتناظرا حول الحلول المطروحة والعمل على تطبيقها بصورة شفافة وبصفة جماعية. هذا الحوار يجب ان يصبح جزء مؤسسي من حوكمة المؤسسات العامة. هذه هي الخلطة السرية!!
ان "اتفاق التعاون" في القرن الواحد وعشرين ما هو الا ادراك جماعي بأن الحكومة لن تكون قادرة على مواجهة المشكلات الاجتماعية دون اقتصاد سوق صحي كما ان القطاع الخاص لن يكون قادرا على خلق فرص العمل اللازمة او العوائد او الافكار دون مساعدة من الحكومة، ويسمى ذلك بالتعاضد في لغة العلماء ولكن في حقيقة الامر ما هو الا امر بديهي منطقي.
----------------------------------
قام بكتابة هذا المقال جريج ليبيديف، رئيس مجلس ادارة مركز المشروعات الدولية الخاصة، لمجلة Diplomatic Courier في 17 اغسطس 2018
شاهد هذا الفيديو لجريج ليبيديف حول نفس الموضوع