هل استهداف الكفاءات سياسة عامة في العراق!

شارك

[addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_pvdf"]

كتب: د. عمـــر الــقــاضي
باحث اقتصادي عراقي

لماذا فقط في العراق، ومن دون دول العالم، نجد أن التاريخ يعيد نفسه وبسرعة، والمجتمع لا يعي مصلحته الحقيقية، ولا من هو المؤتمن الحقيقي عليها، لماذا لا يتعلم مجتمعنا من الدروس والتجارب، ويلاحظ أن جميع دول العالم -ولا نقول المتقدم منه ولكن النامي أيضًا- حققت طفرات نوعية في عملية التنمية الاقتصادية، بعد أن أوكلت مهمة قيادة أجهزة الدولة التخصصية لأناس من أصحاب الكفاءات من الوطنيين، ممن لديهم الخبرة العلمية والعملية، واعتبار ذلك المعيار الوحيد في توزيع المسئولية بين المشاركين في عملية البناء الحقيقي للمجتمع.

مع شديد الأسف، نجد اليوم تكرار المشهد نفسه في طريقة تعاطي الدولة مع أصحاب الكفاءات، في ظل الصمت التام للمجتمع، أو ربما تأييد البعض منهم لسياسات النظام، التي تستهدف الكفاءات الوطنية وتحاول النيل مِن كل مَن يحمل الفكر البناء.. ففي الماضي القريب، وتحديدًا في منتصف عقد السبعينيات، شهد معظمنا طريقة تعامل النظام الحاكم آنذاك مع الكفاءات الوطنية، وإصداره للعديد من القرارات بخصوص حملة الشهادات العليا، لتحفيزهم من أجل العودة إلى الوطن للعمل ونقل الخبرات العالمية للداخل، والتي تمثلت في الإعفاءات الجمركية لمستورداتهم، ومنحهم أراضيَ سكنية، وقد استجاب الكثير من هؤلاء لذلك النداء بدافع حب الوطن وكنوع من رد الدين الذي بأعناقهم تجاه المجتمع. لكن بعد فترة من الزمن توصل النظام الحاكم إلى قناعة مفادها أن هؤلاء أصبحوا يشكلون خطرًا على النظام السياسي، عندما تبين أن البعض منهم يستند إلى التحليل العلمي والمنطقي، وليس إلى ما يصدره النظام من تبريرات في تشخيص المشاكل الاقتصادية الاجتماعية أو السياسية التي كانت سائدة آنذاك، وأصبح صوت العلم يعلو على صوت النظام، فتغيرت طريقة التعامل مع تلك الفئة من المجتمع، وأصدر النظام قراره بأن بعض هؤلاء يروجون لأفكار لا تتوافق مع مبادئ الحزب الحاكم، مما أفضى بالعديد من هؤلاء إلى نهايات مظلمة، أو دفع بالآخرين إلى السجون أو الهجرة.. إضافة إلى ذلك، فإن التاريخ مليء بالأدلة عن تلك الظاهرة المستهدفة للكفاءات الوطنية إلى ما قبل عقد السبعينات. ألم يتعلم المجتمع من أخطاء الماضي القريب!.. كل المجتمعات المتحضرة تسعى إلى التعلم من أخطائها، وتعمل جاهدة لتجاوزها من أجل مستقبل زاهر لها وللأجيال القادمة، فهل يعقل أن نظل مجتمعًا غير متحضر لا يسعى إلى التعلم من أخطاء الماضي حتى القريب منه!

بعد التغيير الكبير الذي حصل في العراق، والانفتاح على العالم الخارجي ما بعد العام 2003، مما سهل على المجتمع عملية الوصول إلى الحقائق والتمييز بين الصواب والخطأ، لم يعد لأدوات استهداف الكفاءات الوطنية المعتمدة في السابق جدوى، لذلك تم اعتماد أداة أخرى في استهدافهم، أداة لاقت قبولاً واسعًا من قبل شريحة من المجتمع تسعى دومًا للمحافظة على مكاسبها الشخصية على حساب الوطن، وذلك من خلال توجيه الاتهام بالفساد، والتشهير ضد كل من يشكل خطرًا على الحكومة، دون توفر الدليل المادي أو إخضاع المشتبه بهم لمحاكمة عادلة. فبمجرد الشعور بأن شخصًا ما أصبح يستخدم المنطق والتحليل العلمي عند تشخيص المشاكل التي يواجهها البلد، والبحث في أسبابها، في محاولة للحد من التراجع، والسعي إلى العمل من أجل الإصلاح، تتعالى الأصوات ضد ذلك الشخص، ويُتهم بالفساد، وتُسخَّر جميع طاقات الدولة من أجل استبعاده وإسكات صوته، وهذا ما حدث مؤخرًا مع قضية الشبيبي وفريق عمله من خبراء البنك المركزي.

يقول أينشتاين: "الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين، وبنفس الأسلوب ونفس الخطوات، مع انتظار نتائج مختلفة".. فماذا ينتظر المجتمع من نتائج عند تكرار أخطاء النظام السابق سوى دمار ما تبقى من كفاءات وطنية، والمزيد من النزيف المستمر للخارج، وسيطرة حملة أنصاف الشهادات والمزورين على مقدرات الوطن، كما حدث في السابق عندما شاهدنا النزيف للكفاءات. ويتجلى ذلك في توزيع المناصب وفقًا لمبدأ الولاءات الحزبية والعائلية، فنجد نائب الضابط وزيرًا للدفاع، أو المفوض في الشرطة وزيرًا للداخلية، وغير ذلك على مختلف السلم الوظيفي، مع حرمان ذوي المؤهلات منها. ونستطيع أن نلحظ انعكاس ذلك على التدهور الواضح في الأداء الوظيفي (مع احترامي الشديد لكل نائب ضابط ومفوض، فهؤلاء يبدعون في اختصاصاتهم كما يبدع الطبيب والمهندس في مجال اختصاصه).. ما الفائدة إذن من المقولة التالية: "وضع الرجل المناسب في المكان المناسب". سيخرج واحد ليقول إن غالبية من في السلطة الآن ممن يشغلون درجات وظيفية متقدمة يُعدونَ من حملة الشهادات العليا ومن ذوي الاختصاص، وربما يكون صائبًا في قوله هذا، لكن عن أي نوع من المتخصصين وحملة الشهادات يتكلم، فهل لهؤلاء رأي يعارض رأي صاحب الفضل (حزب سياسي أو ديني) في إيصالهم إلى المنصب، أو مخالف لرأي السلطان، فأمثال هؤلاء أخطر من فاقدي المؤهلات، إذ سيستخدمون الثغرات العلمية في تبرير الانحرافات في السياسة العامة للسلطان، فهل تحققت مقولة أينشتاين في العراق؟

أتوجه بالسؤال الآن لأينشتاين، ما هو شعورك الآن وأنت ترى مجتمعًا في القرن الحادي والعشرين يعتمد مقولتك حرفيًّا؟.. هل تشعر بالسعادة بسبب تحقق مقولتك، أم بالحزن لأن هناك مجتمعًا في الفضاء العملي ما زال يعتمد مقولتك، وغائب عن عالم اليوم القائم على المنافسة البناءة الهادفة إلى الابتكار والإبداع، بهدف التنمية وتقديم ما هو أفضل للبشرية؟!

Hello World!

TOP