أنا "ابنة الثورة" بالاسم فقط... فقد كنت حينها في الرابعة من عمري

شارك

[addthis tool="addthis_inline_share_toolbox_pvdf"]

كتبت: بولا أناستاسياد
مساعدة برامج، مركز المشروعات الدولية الخاصة، رومانيا

صادفت اللحظة التي شهدت التحول الدراماتيكي في مسار رومانيا –من الشيوعية إلى الديمقراطية– فترة كانت ذاكرتي فيها أصغر من أن تستطيع استيعاب المسائل الجوهرية في مثل هذا التحول المهم.

فذاكرة الطفل يرسخ فيها عالمه الخاص الصغير، بمحيطه الأُسري في المقام الأول. وعندما كان أبواي يكافحان للحصول على أساسيات الحياة الكريمة، رغم الصعاب الكثيرة، كانا يحرصان أشد الحرص على إبعادي، وأختي الأصغر، عن تلك المعاناة والحرمان والقلق بقدر الإمكان. في تلك السن الصغيرة لم نكن نعي ما حُرمنا منه من أشياء مادية. وبرغم أن انهيار الشيوعية لم يكن احتمالاً قائمًا، لم يُرد أبواي أن نتعرض أنا وأختي للأفكار الشيوعية، لذلك ألحقانا بحضانة صغيرة خاصة يتم التدريس فيها باللغة الإنجليزية، حتى نستفيد من المواد التعليمية الغربية، التي قلما كانت توجد في أماكن أخرى. بل وأنفقا، لسنوات طويلة، على دروس خاصة لنا في الإنجليزية والفرنسية. كان تصميمهما هذا وتضحياتهما المادية مفتاح طفولتنا الآمنة والطبيعية في تلك الأوقات غير الطبيعية بالمرة.

أنا إذن، "ابنة الثورة" بالاسم فقط، فقد كنت حينها في الرابعة، أعيش في بلدة صغيرة، أستمتع بطفولة طبيعية، وأشعر بالحماية التي توفرها لي أسرتي من أي شيء قد يخيفني. ومع ذلك، كانت هناك بعض الأمور التي أثارت حيرتي، مثل الانقطاع المتكرر للكهرباء الذي كان يجعلنا نعيش في ظلام دامس. كذلك كان يشدد أبواي على ألا نتحدث، نحن الطفلتان، عن أي شيء يخص حياة أسرتنا خارج المنزل. وعرفت بعد ذلك أن منشأ ذلك الحرص الخوف المتجذر من السيكوريتات، الذي كان يذيق الرومانيين كل صنوف الاضطهاد، دون أي سند في كثير من الأحيان. فقد زرع النظام في نفوس الناس، وعلى نطاق واسع، خوفًا وعدم ثقة وشكًّا، لا تزال كلها قائمة، حتى يومنا هذا.

التحول من نظام إلى آخر يعني، بالقطع، المزيد من الحرية، بكل أشكالها: حرية التحدث، وأن يكسب المرء أكثر، ويمتلك أكثر، ويفعل أكثر. ولكنه كان يعني أيضًا تحولاً في العلاقات والقيم التي كنت أستشعرها بوضوح، حتى في تلك السن المبكرة. ففي زمن الشيوعية كان الكل تقريبًا يملك نفس الموارد المحدودة ونفس الأفق، وهو ما قلص، إلى حد بعيد، من الاحتياج للمنافسة وإمكانية الشعور بالحسد. ومحدودية الموارد تعني أيضًا عدم وجود ما يلهي الناس عن إحباط حياتهم اليومية الرتيبة، فكانوا ينفقون الوقت في تعزيز الصداقات والعلاقات الأسرية. كان عالم كل منا الصغير هو مهربه وملاذه. ولذلك، كانت أعياد ميلادي، والمناسبات الأخرى، حتى 1989، تعني مسكنًا صغيرًا مليئًا بالأحبة، بمن فيهم عائلتي الكبيرة والجيران. كان المكان ضيقًا، ولكنَّا كنا سعداء بجَمعِنا واحتفالنا، على أنغام الموسيقى الغربية التي استطاع جدي الحصول عليها بشكل غير رسمي، في وقت كان كل شيء أجنبي فيه يخضع لرقابة صارمة. وكانت عطلة نهاية الأسبوع بالنسبة لأهلي، كما كانت بالنسبة لمعظم الناس، قبل 1989 وفي السنوات الأولى للتحول، تعني حفل شواء أو تنزه في مجموعة كبيرة من الأصدقاء، وكنت دائمًا أغتبط للمشاركة فيها.

مع التحول إلى الديمقراطية والرأسمالية، حل التنافس محل الشعور المريح بالأمان، برغم ما كان فيه من قيود. فقد أُغلقت بعض المشروعات المملوكة للدولة، بينما تمت خصخصة أخرى، ففقد الكثيرون وظائفهم، ومعها أمنهم المالي. وكان على من وجدوا أنفسهم، فجأة، بدون عمل، أن يتعلموا مهارات جديدة حتى يحصلوا على وظيفة جديدة. وآخرون جربوا حظهم في إنشاء أعمال خاصة والتكيف مع تحديات رأسماليةٍ ناشئة، بينما جازف آخرون فوضعوا ما يملكون من مال قليل في أنشطة مالية زائفة فزاد إحباطهم وفقرهم. وكان على أبوييّ، مثل ملايين الرومانيين، أن يبتكرا فيما يتعلق بمستقبلهم المهني. وكانا من بين المحظوظين الذين استطاعوا الخروج من فترة البداية المضطربة الصعبة في أوائل التسعينيات، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك إلا بعد خفض كبير في الميزانيات من جانب أصحاب العمل، وتقشف متكرر، فضلاً عن دورة محبِطة من التجربة والخطأ على المستوى المهني.

هذه الحرية التي حصلنا عليها صاحبتها شحنة يومية من الكفاح، تقلص معها المتاح من وقت وقدرة على التواصل الاجتماعي، كما خلقت إحساسًا غير مسبوق بالتنافس، ابتعد بالناس كل عن الآخر. ليس في ذلك شيء من المنطق، في عيون الطفلة التي كنتها، والتي لم تستطع بالقطع أن تستوعب تمامًا حجم ما حدث من تغير. بيد أن ذلك خلق عندي نوعًا من حنينٍ مبهم للعلاقات الاجتماعية الراسخة التي كنت أعرفها، والتي لا أزال أحن إليها بين حين وآخر.

الثورة، كما قال نابليون: "لا يمكن خلقها ولا إيقافها. الممكن الوحيد أن يخرج واحد من أبنائها الكُثُر ليمنحها اتجاهًا بتحقيق الانتصارات".

التغييرات الجذرية سوف تظل دائمًا تأتي بثمن فادح من أرواح البشر، والضيق الاقتصادي الطويل، والحيرة.

في الوضع الأمثل، سوف يضمن الارتباط العضوي بين الدولة والكيانات غير الحكومية، وسرعة وعمق التفاعل بينهما -الذي يميز عالم اليوم- أن تتيح ثورات اليوم والغد للمتأثرين بتلك التغيرات أن يمروا بمرحلة التحول بسرعة أكبر بكثير. وعلى زعماء العالم، الآن أكثر من أي وقت مضى، أن يلعبوا دورهم في الحفاظ على السلام ومساعدة من يكافحون للحصول على حريتهم لتخطي عقبات التحول نحو بيئة سياسية واجتماعية أفضل. لم يعد بوسع المرء في عالمنا الجديد أن يتجاهل كفاح الآخرين. وليس لنا إلا أن نأمل في أن يستطيع من يمرون بمرحلة تحول أن يقلصوا الاضطراب والمعاناة إلى أقل حد ممكن، وذلك بتعلم الدروس من الثورات الماضية والحصول على دعم المجتمع الدولي.

Hello World!

TOP