كتب: دكتور باتريك المارديني
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق LIMS
كتب هذه المدونة باتريك ماردينى، المعهد اللبناني لدراسات السوق، وتم مناقشتها في الوبينار الخاص بأصحاب الفكر الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط عقده مركز المشروعات الدولية الخاصة في28 سبتمبر2017.
تتميز البلدان النامية بدعم المواد الاستهلاكية كالغذاء والماء والكهرباء والتعليم، وذلك على أساس أنها ضرورة وحق للمواطنين بغض النظر عن مستوى دخلهم. وعادةً ما تكون هذه السياسات شعبية فيخيل للمواطن أن حكومته تعتني به وتدافع عن حقوقه المهدورة. كما أن حكومات الدول النامية غالباً ما تهوى سياسات الدعم لأنها تكفل لها التأييد الشعبي. وعادةً ما تشرع المعارضة في المزايدة بكلّ ما يخصّ موضوع الدعم، فتقترح زيادة نسبته وتوسيعه ليشمل مواد إضافية. وبما أن كماليات الأمس هي من ضروريات اليوم (الكهرباء والإنترنت وغيرها)، تتفاقم سياسات الدعم ولا يجرؤ أحد على مواجهتها بالعلن على الرغم من نتائجها المأساوية، فتتحول بذلك إلى وحش كاسر ينتهش ثروات الأمم وينشر الفقر والبطالة.
إن سياسة دعم الكهرباء في لبنان خير دليل على ذلك، إذ تحتكر مؤسسة كهرباء لبنان إنتاج الطاقة الكهربائية ونقلها وتوزيعها وجباية الفواتير على جميع الأراضي اللبنانية تحت إشراف وزارة الطاقة والمياه. وبما أن الكهرباء مدعومة، تبيع مؤسسة كهرباء لبنان الإنتاج بسعر أقل من سعر الكلفة. وتتراوح كلفة الإنتاج بين 200 و300 ليرة لبنانية، وهي مرتبطة بالسعر العالمي للمحروقات، بينما تباع بسعر يتراوح بين 35 و200 ليرة، وذلك بحسب غاية الاستهلاك وحجمه. ولكن، من يدفع ثمن هذا الدعم؟
تغطي خزينة الدولة اللبنانية الخسارة السنوية لمؤسسة كهرباء لبنان التي تبلغ 2-2.5 مليار دولار سنوياً، وبذلك يشكل عجز كهرباء لبنان حوالي 45% من مجمل عجز الخزينة اللبنانية. وتأتي هذه الأموال من الضرائب التي تجبيها الدولة قسراً من جيب المواطن، ومنها ضريبة القيمة المضافة (TVA) والضريبة على صفيحة البنزين والضرائب على السلع المستوردة وغيرها. لذا يدفع المواطن اللبناني، من مختلف الفئات الشعبية، ثمناً باهظاً عند شرائه حاجته اليومية بسبب الضرائب، ويشكل تمويل دعم الكهرباء أحد أهم أسباب هذا الأمر.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سياسة الدعم تخدم مصلحة الغني على حساب الفقير، إذ إن من يستفيد من هذه السياسة هو الأكثر استهلاكاً للكهرباء، فإذا استهلك المواطن كهرباء بقيمة 100 دولار فهو يدفع حوالي 60 دولار كفاتورة كهرباء، بينما تغطي الدولة ال40 دولار المتبقية. أما إذا استهلك كهرباء بقيمة 200 دولار فإنّ الدولة تغطّي 80 دولار. وبما أن المنازل الميسورة مجهزة بأدوات كهربائية متعددة وإنارة وتكييف، فإنّ هذا هو ما يجعلها تستهلك الكهرباء أكثر وبالتالي تستفيد من الدعم بشكل أكبر.
وتدفع سياسة الدعم إلى الإسراف في استهلاك الكهرباء في لبنان، فالعديد من اللبنانيين لا يطفئون الأنوار عند مغادرتهم منازلهم أو يتركون المكيف يعمل في غيابهم إلى غير ذلك من حالات الإسراف. وينتج عن هذا الإسراف أثر مادي على خزينة الدولة وآخر بيئي كبير ناتج عن استهلاك الطاقة.
ولكن البعض يدّعي أن تخفيض فاتورة الكهرباء من خلال الدعم يؤدي إلى مساعدة القطاعات الإنتاجية، وخاصةً الصناعات الوطنية التي تستفيد من كلفة إنتاج متدنية، مما يسمح لها بالمنافسة والتصدير والربح والاستثمار وخلق فرص عمل إضافية للشعب. إن هذا السيناريو موجود فقط في مخيلة واضعي تلك السياسات ولا يمت إلى الحقيقة بصلة. فمثلاً، لا يمكن لمؤسسة كهرباء لبنان تأمين التيار الكهربائي ل24 ساعة يومياً، وذلك بسبب تراكم الخسائر. فكلما باعت المؤسسة كهرباء أكثر، زادت خسارتها المادية بسبب الدعم. لذا يبلغ عدد ساعات التقنين (أي قطع الكهرباء) من 12 إلى 18 ساعة يومياً في بعض المناطق، وحوالي الـ3 ساعات أو أكثر في بيروت. ورغم هذا التقنين الحاد، تتكبد الدولة 2-2.5 مليار دولار من الخسائر سنوياً في قطاع الكهرباء، فإذا ما ضاعفت مؤسسة الكهرباء إنتاجها، تضاعفت خسائر الدولة.
لذا بادر المواطنون لاقتراح الحلول البديلة من أجل تسيير حاجاتهم وتغطية النقص في التغذية. فقد أُمّن "الاشتراك" هذا البديل بحيث يستثمر فردٌ رأسماله في مولد كهربائي صغير بإمكانه تأمين التغذية لحيّ أو اثنين، ويشترك معه المواطنون لقاء بدل شهري. ويعتمد 70% من المواطنين على الاشتراك و22% على مولدات خاصة و7% على مولد مشترك للمبنى و1% على مولدات تديرها البلديات، ويبيع مالكو مولدات الاشتراك الطاقة من دون تركيب عدادات على أساس تعرفة تقاس ب"الأمبير" وتتخطى بـ 8 أضعاف التعرفة المعتمدة من قِبَل مؤسسة كهرباء لبنان. لذا يدفع المواطن اللبناني اليوم فاتورتين، واحدةً مدعومة من الدولة وأخرى باهظة للاشتراك. وإذا جمعنا الاثنتين معاً، نكتشف أن تكلفة الكهرباء في لبنان مرتفعة جداً رغم الدعم، ولقاء خدمة مزرية.
فدعم سلعة غير موجودة (12 ساعة من إنقطاع الكهرباء يومياً)، يجبر المواطن على شرائها من السوق السوداء مع كل ما يرافق ذلك من إجحاف بحقه، إذ لا يمكن الحصول على خدمة أفضل أو سعر أقل في السوق السوداء، لأنها لأصحاب العضلات والنفوذ. وتمنع التسعيرة المدعومة واحتكار الدولة للقطاع، المستثمر الذي يحترم القانون من دخول سوق توليد الكهرباء. لذا تُرِكَ القطاع لمحبي مخالفة القانون، فمنعوا المنافسين من دخول الحي الذي يوزعون فيه الكهرباء، وقُسِّمَت الأحياء في بعض المناطق إلى مربعات، كلٌّ يمتلك الاحتكار في مربعه. ووصل الحال إلى حد التشابك بالأيادي وإطلاق النار على منافس تجرّأ على دخول الحي الذي يحتكره صاحب المولّد. كما تمّ تفضيل المولدات الرخيصة على المصانع المكلفة بسبب المجازفة العالية بالقطاع. وطبعاً تفوق كلفة إنتاج الكهرباء بالمولدات البدائية بأشواط كلفة إنتاجها بالمصانع المتقدمة. ولكن احتكار الأحياء يسمح بفرض أسعار مرتفعة تغطي التكلفة العالية وتفيض.
إنّ سياسة الدعم التي تؤدي إلى التقنين تكبّد الوطن خسارات فادحة من بطالة ونمو وكلفة إنتاج، إذ إنه يتوجب على المؤسسات شراء الكهرباء من الاشتراك ما يكلّف أضعاف التعرفة العادية. فعلى سبيل المثال، تقدَّر الزيادة على فاتورة الكهرباء في القطاع الصناعي ب400 مليون دولار، وتؤدي إلى زيادة كلفة الإنتاج المحلي بـ 23% وخسارة القطاع نحو 30 الف وظيفة. والوضع ليس أفضل في قطاع الزراعة الذي يستهلك الكهرباء بكثافة من أجل الري، أو في قطاع الخدمات الذي يحتاج للإنارة والتكييف والتدفئة.
وأخيراً، تشجع سياسات الدعم على الهدر والإسراف في مؤسسة كهرباء لبنان في إنتاجها وتوزيعها وجبايتها، وذلك لأن المؤسسة لا تتحمل مسؤولية أفعالها، فالدولة تغطي خسائرها. ويرتفع الهدر حاليا إلى 45%: 25% سرقة و3% جباية و15% هدر فني، فيما يبلغ الهدر 6% في الشركات الخاصة المنتجة للكهرباء (1% سرقة وجباية و5% هدر فني) كما هو الحال الآن في شركة كهرباء زحلة، فهذا يعني أن كلفة إنتاج الشركات الخاصة أدنى بـ39% من كلفة إنتاج كهرباء لبنان. ولا يقتصر ضعف الإنتاجية على الإنتاج والتوزيع والجباية فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى إغراق المؤسسة بالعمالة غير الضرورية وغياب التعاقد مع الشركات الأكثر كفاءةً والأقل كلفة، ما يؤدي إلى رفع كلفة الإنتاج وزيادة الخسارة.
تطالب وزارة المالية ومؤسسة كهرباء لبنان بين الحين والآخر بتعديل تعرفة الكهرباء لتتماشى مع واقع كلفة الإنتاج، لكن الحل يكمن بالذهاب إلى أبعد من ذلك، أي إلى حد تحرير التعرفة، لا تغييرها. إنّ تحرير التعرفة يعني وقف تحديد سعر معين للكهرباء من قبل مجلس الوزراء كما هو الوضع الحالي، وترك المجال للسوق لتحديد السعر. فكما يحدَّد سعر البطاطا أو اشتراك الصحون اللاقطة بناءً على العرض والطلب، يجب أن تتبع الكهرباء التقويم نفسه. ومن المتوقّع أن يؤدي تحرير سعر الكهرباء إلى: (1) وقف العجز المالي لمؤسسة كهرباء لبنان، لأن التعرفة ستكون حينها كافية لتغطية الكلفة، (2) تخفيض عجز ميزانية الدولة للنصف، (3) زيادة حجم إنتاج كهرباء لبنان، إذ إن المؤسسة تتجنب حالياً الإنتاج بكامل طاقتها بسبب خسارتها جراء سياسة الدعم، (4) تخفيض الفاتورة الإجمالية على المواطن، إذ يتخلص من الاشتراك.
ولكن تبقى مشكلة الهدر في كهرباء لبنان إذا ما احتفظت باحتكارها. لذا يجب وقف الاحتكار وفتح السوق للقطاع الخاص وللمنافسة. ويسمح ذلك للمواطن اللبناني باختيار الشركة التي يرغب بشراء الكهرباء منها. فإذا كان مواطنٌ في طرابلس غير راضٍ عن خدمة كهرباء طرابلس مثلاً، يمكنه الاشتراك مع كهرباء جبيل، إذ يحق لكهرباء جبيل الآن توسيع خدمتها لتشمل جميع المناطق اللبنانية. إن إعطاء الخيار للمواطنين ورفع القيود عن المنتجين يؤديان إلى إطلاق منافسة شريفة تبقي السعر منخفضاً والنوعية مرتفعة.
وفي هذه الحال، لا داعي أبدًا لتعيين جهاز حكومي بيروقراطي للمراقبة نيابةً عن المستهلك، إذ إن المستهلك يراقب بنفسه ويمتنع عن الشراء من ذوي الخدمات الرديئة أو المكلفة ويلجأ إلى ذوي الخدمة الصالحة والسعر المقبول. إن شراء الكهرباء من الشركات ذات الخدمة الجيدة والسعر المقبول يزيد من ربحها ويشجعها على زيادة الإنتاج. كما أن الامتناع عن شراء الكهرباء من الشركات السيئة ذات السعر المرتفع والخدمة الرديئة يعاقبها ويكبّدها خسائر مادية تضطرّها إلى تحسين خدماتها وتخفيض سعرها أو ترك السوق لمن هو أفضل منها.
في ظل هذه الإصلاحات، يكون الاتّفاق على سعر مرتفع من قبل بائعي الكهرباء غير ممكن. فلنفترض مثلا أن أصحاب شركات توليد الكهرباء اجتمعوا واتفقوا فيما بينهم على فرض تسعيرة موحدة مرتفعة تؤمن لهم أرباحًا طائلة (cartel). ففي هذه الحالة لا يستطيع المواطن ممارسة حقه في المحاسبة عبر الانتقال من موزع كهرباء لآخر، لأن الآخر يفرض السعر المرتفع نفسه. لكن الأرباح المرتفعة في قطاع الكهرباء تدفع مستثمرين جدد إلى دخول القطاع طمعاً بجني أرباح مماثلة. ومن أجل أن يتمكن هؤلاء من دخول السوق، يعرضون أسعار أفضل تشد المواطن اليهم. وطالما كانت الأسعار مرتفعة والأرباح عالية، يتدفق المستثمرون الجدد ويخفضون أسعارهم من أجل إقناع المستهلكين بترك مصدرهم الحالي والشراء منهم. وتؤدي هذه الديناميكية إلى عودة المنافسة وفرط الـCartel لأنه إذا تمسك الـCartel بالأسعار العالية يخسر جميع زبائنه. هكذا يراقب السوق نفسه بنفسه من دون الحاجة إلى هيئة ناظمة أو سلطة وصاية أو أي اختراع بيروقراطي آخر. والشرط الوحيد هو أن لا تتدخل الدولة وتمنع أو تعرقل دخول الشركات الجديدة إلى السوق.
ويجب أن يترافق تحرير التعرفة بتحديد الدولة هدفًا لمؤسسة كهرباء لبنان، وهو تحقيق ربحٍ مالي سنوي أو توازن بالحد الأدنى. فإذا ربحت المؤسسة تحتفظ بالجزء الأكبر من الأرباح، وإذا خسرت تعاقَب الإدارة مادياً ومعنوياً. وبهذه الطريقة تتحمل الإدارة مسؤولية نتائج المؤسسة، ما يضمن للدولة أن لا تكون هناك خسارة ناتجة عن قطاع الكهرباء بعد اليوم، بل على العكس، يؤمّن دخول المنافسة إلى السوق مردودًا للدولة عبر الضرائب، وتتحول بذلك خسائر قطاع الكهرباء إلى أرباح.
قد يعتقد البعض أن فرض أسعار مرتفعة جداً على المواطنين يسمح بتحقيق مكاسب أكبر، لكن ذلك غير ممكن في هذه الحالة. فلنفترض مثلاً أن كهرباء لبنان رفعت تعرفتها إلى ما يفوق المعقول، فسيؤدي ذلك إلى تخلّي الناس عن شراء الكهرباء من مؤسسة كهرباء لبنان ولجوئهم إلى الشركات الخاصة، لأن السوق بات مفتوحاً ولا احتكار بعد اليوم! ومن أجل الاستمرار، يتوجب على كهرباء لبنان تقديم خدمة جيدة بسعر مقبول، وإلّا هجرها الناس والتجأوا إلى البديل الذي أصبح متوفرًا بكثرة.
إن تأمين الطاقة الكهربائية للمجمّعات الإنسانية شرط جوهري لتلبية الحاجات الاقتصادية والاجتماعية وتفعيل الصحة والمياه والتعليم والتنمية والإنتاجية وخدمات الاتصالات والمعلومات، كما أن لنقص الكهرباء أو ارتفاع سعرها تأثيراً كبيراً في تقويض بيئة الأعمال وإفقار الشعوب. لقد حان الوقت لوقف الدعم عن الكهرباء في لبنان وإطلاق المنافسة في هذا القطاع.