كتب: د. محمد عبد الواحد الميتمي
جميع الثورات في التاريخ العالمي تحمل سمات مشتركة في كونها تتضمن أربعة عناصر هيكلية حتمية، ترافق مسار التحول الثوري منذ بدايته وحتى نهايته. هذه العناصر نطلق عليها هنا مناطق العبور التي تتضمن: أ) منطقة الصراع، التي يطلق عليها في الأدب السياسي الحالة الثورية، وفيها يحتدم الصراع بين القديم والجديد ويأخذ أشكالاً مختلفة، بما فيها الصراع الدموي المسلح على النموذج السوري والليبي.. ب) منطقة الارتداد، وفيها تكون قوى وعناصر الثورة المضادة وأنصار النظام القديم والمصالح المرتبطة به تتمتع بقوة المناورة والمبادرة.. ج) منطقة العبور الآمن إلى منطقة الاستقرار، وفيها تكون قوى التغيير قد تبلورت وتهيكلت بشكل كاف، وأصبح زمام الأمور في كثير من مفاصل مسار التغيير تحت سيطرتها، غير أن عناصر النظام القديم ما زالت موجودة، وإن كانت في مرحلة الاحتضار النهائي وتجاهد للبقاء.. د) مرحلة الاستقرار أو السلام -وهي المرحلة الأخير، حيت تكون ثقافة التغيير قد تغلغت في أعماق النسيج الاجتماعي للدولة والمجتمع، وتملكت القوى الجديدة كافة موارد ونظم السيطرة الكاملة على عملية التحول الشامل.
في حالة الثورة الشبابية الشعبية اليمنية، نستطيع القوت إن اليمن تجاوزت مرحلة الصراع، ودخلت في منطقة الارتداد، حيث ما زالت قوى الثورة المضادة بأشكالها وألوانها المختلفة تسعى لتغيير مسار حركة التغيير لصالحها، فهي تمسك بالمفاصل الهيكلية لمؤسسات الدولة والمجتمع، وتشيع حالة من الفوضى والإرباك المجتمعي لدفع المجتمع إلى الاستسلام والارتداد. وعناصر الارتداد إلى الخلف في المجتمع اليمني بيَنة وبارزة ومتنوعة، حيث قوى التخلف والثورة المضادة وأعداء الدولة المدنية الديمقراطية كثر، ويرتدون ملابس وأقنعة كثيرة، منها ما هو خفي، وآخر بيِّن وواضح. ويبذلون الآن جهودًا جبارة لإحباط عملية التغيير، من خلال إعادة شبكة التحالفات المعبرة عن رفضهم لطبيعة وشكل التغيير المعلن والمنتظر شعبيًّا ومؤسسيًّا. هذا بالإضافة إلى الدعم الإقليمي التي تتمتع به هذا القوى التي تتفق مصالحها مع المصالح الاستراتجية والآنية لبعض الدول الإقليمية الرافضة لشكل ومضمون التغيير في اليمن. فيما تظل القوى المدنية المناصرة لعلمية التغير ضعيفة ممزقة، وتفتقر إلى قوة التنظيم والدعم المالي واللوجستي الذي تملكه قوى التخلف في اليمن، كما تفتقر إلى الرؤية الواضحة للتغيير المنشود. هذا فضلاً عن أن مجموعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والطائفية، والتي تعبر عن قوة حضور نمط الحياة القديم بعنصريه (منظومة العلاقات الاجتماعية السائدة، والتحيز الثقافي)، ما زالت تمثل مجالاً حيويًّا لقوى التخلف لصنع الارتداد إلى الخلف. وما نلحظه في اليمن أنه في الوقت الحاضر يوجد 13 مركز قوة تتفاعل وتتصارع على الإحكام والسيطرة على مسار عملية التغيير، ومعظم هذه القوى وأكثرها تنظيمًا وتمويلاً هي تلك المناهضة لمسار التغيير، وما زال بعضها مترسخًا في بنية الدولة وهياكلها المؤسسية الحاكمة، وأبرزها ذلك التحالف القبلي/العسكري/الإسلاموي السياسي المجسِّد لنمط الحياة والحكم الذي ثار عليه الشباب اليمني في فبراير عام 2011. وعليه، فإن ملامح الارتداد إلى الخلف تتعاظم وتشتد مع مرور كل يوم، الأمر الذي يغذي هذا القلق المستعر محليًّا وعالميًّا من فشل "النموذج اليمني"، مما يدعو جميع القوى المحلية والإقليمية والدولية المساندة لهذا النموذج إلى أن تقرأ بتمعن وعمق منطقة الارتداد وتحشد قواها مجتمعة لتغيير موازين القوة لصالح قوى التغيير، لبلوغ مرحلة العبور الآمن في أسرع وقت ممكن خلال الأشهر القادمة. الخطوة العملية المباشرة في هذا الاتجاه، تتمثل في ضرورة أن يعجل رئيس الجمهورية بتنفيذ النقاط الـ(31) التي اتفقت بشأنها القوى السياسية المدنية المنضوية في مؤتمر الحوار، وأن تبدأ الحكومة في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والاجتماعية التي تعبر عن احتياجات الشارع وتطلعاته في التغيير الحقيقي، والتخلي عن ممارسات الحكم المستند على المحاصصة والتقاسم، لطمأنة المجتمع بأن الدولة المدنية العادلة غدت ثقافة وسلوك النظام الجديد.