كتب: حسين عبد المطلب الأسرج
باحث اقتصادي مصري
ما إن بدأت الحركة الاحتجاجية في تونس تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" حتى انتقلت ثورة الياسمين إلى مصر، وخرجت الجماهير المصرية من سباتها بعدما كانت توصف بأنها مصابة بـ"موت سياسي". وتشير تجارب تطبيق المساءلة الاجتماعية إلى قيمتها في تحسين الخدمات بمختلف القطاعات، وفي إعطاء المواطنين قدرة على التعبير عن الرأي بوصفهم المستخدم النهائي. ويعد ما تظهره أهداف ثورة يناير من اهتمام متزايد بالحكم الديمقراطي نقطة بداية مهمة لمشاركة المواطنين في تحسين الخدمات، وغير ذلك من المجالات الرئيسية للإدارة العامة، مثل صنع السياسات وإدارة المالية العامة.
وتعرّف المساءلة ببساطة بأنها التزام مَن في يدهم السلطة بتحمل تبعات أفعالهم، فهي تصف الحقوق والمسئوليات الموجودة بين الناس، والمؤسسات (وتشمل الحكومات، والمجتمع المدني، والأطراف الفاعلة في السوق) التي لها أثر على حياتهم. ففي الدول الديمقراطية، تساعد علاقات المساءلة على ضمان تمسك صانعي القرار بالمعايير والقواعد والأهداف المتفق عليها علنًا، حيث يمنح المواطنون حكومتهم صلاحية فرض الضرائب والإنفاق وسن القوانين ووضع السياسات وإنفاذها، وفي المقابل يتوقعون منها تفسير وتبرير استخدامها صلاحياتها، واتخاذ التدابير التصحيحية عندما تدعو الحاجة.
ومن هذا المنظور نجد أن للمساءلة غرضًا سياسيًّا (التحقق من إساءة استخدام صلاحيات السلطة التنفيذية السياسية)، وغرضًا تشغيليًّا (ضمان فعالية أداء الحكومات). ولكي تكون المساءلة فعالة لا بدّ أن تشتمل على مكوّنين، هما: المساءلة، وهي الالتزام بتقديم تفسير، والحق في الحصول على ردّ.. والإنفاذ، وهو ضمان اتخاذ إجراء.
وقد تكون المساءلة رأسية (مفروضة من الخارج على الحكومات، أو رسميًّا من خلال العمليات الانتخابية، أو بطريق غير مباشر من خلال الانخراط المدني)، أو أفقية (مفروضة من قبل الحكومات داخليًّا من خلال آليات مؤسسية للرقابة والضوابط والتوازنات).
غير أنه وُجد أن صورتي المساءلة، الرأسية والأفقية، غير مرضيتين من جوانب كثيرة، مثل عدم ملاءمة العمليات الانتخابية، وعدم كفاية الضوابط والتوازنات التي ترسيها الدولة، وقوانين السرية، وغياب نقاط الدخول للمواطنين، لاسيما بالنسبة للفئات المهمشة.
ومن شأن المساءلة الاجتماعية توفير مجموعات إضافية من المراجعات والتوازنات للدولة، من أجل الصالح العام، مما يفضح وقائع الفساد والإهمال والقصور التي لا يتوقع أن تعالجها أشكال المساءلة الأفقية أو لا تقدر على معالجتها، وعلى عكس صور المساءلة الرأسية الأخرى مثل الانتخابات، يمكن، غالبًا، ممارسة المساءلة الاجتماعية بشكل مستمر من خلال وسائل الإعلام، والسلطة القضائية، وجلسات الاستماع العامة، وهيئات المحلّفين المشكلة من المواطنين، والحملات والمظاهرات، إلخ.
وبناء على ذلك، فإن المساءلة الاجتماعية تصبح في جوهرها عنصرًا رئيسيًّا في إحلال الديمقراطية، وبالتالي تصبح ذات أهمية خاصة لمصر. ويتمحور إطار المساءلة الاجتماعية حول ثلاثة مبادئ أساسية، هي: (1) الشفافية، (2) المساءلة، (3) المشاركة. ويتوقف مدى فعالية هذه المبادئ على توفر العديد من الشروط المواتية، منها:
1- المشاركة النشطة للمواطنين في الشؤون العامة تتطلب بيئة مواتية: فمن شأن سن التشريعات الملائمة للتشجيع على حرية التعبير، وإجراء انتخابات حرة مستقلة، وحرية تكوين الجمعيات، أن يوفر ضمانات مهمة للمواطنين ينبغي أن تكون لها أولوية في عملية التحول.
2- تواصل الحكومة مع المجتمع المدني أمر بالغ الأهمية لبناء الثقة وإشاعة الطمأنينة: ففي مناخ ما بعد الثورات، الذي يتسم عادة بارتفاع مستوى التطلعات، يمكن للحكومة الجديدة أن تغتنم الفرصة لإشراك المواطنين وأصحاب المصلحة من جميع فئات وشرائح المجتمع في عملية صنع القرار بجميع مستوياتها، سواء منظمات المجتمع المدني، أو المجتمعات المحلية، أو ممثلي الفقراء والمحرومين، أو الجماعات الدينية، أو النسائية. وينبغي دعم هذه المشاركة بآليات للحوار الحقيقي.
3- إفصاح الحكومة مسبقًا عن المعلومات المتعلقة بخططها خلال الفترات الانتقالية يساعد على ترويض التطلعات: فخلال الفترات الانتقالية، تواجه الحكومة تحديات تتمثل في الاستجابة لمطالب متعددة في الوقت ذاته. ويتمثل جزء من نجاح تركيا، على سبيل المثال، في إدارة الفترات الانتقالية، في إعلان خطط عملية واقعية وجداول زمنية متوقعة لتحقيق المعالم الرئيسية لتلك الخطط، وهو نهج أسفر عن مساندة واسعة النطاق للحزب الحاكم، من مواطنين لديهم المعلومات اللازمة.
4- من الأهمية بمكان الاستثمار في تحسين الخدمات، من خلال إقامة علاقات شراكة مع المجتمع المدني والمستخدمين: فالمشاركة الشعبية التي تقودها منظمات المجتمع المدني يمكنها أن تؤدي إلى تحولات ملموسة في طريقة تقديم الخدمات. وجدير بالذكر أن منظمات المجتمع المدني باستطاعتها أن تكون حليفًا قويًا للحكومة في إحداث التغيير الإيجابي، وعادة ما يتم ذلك في مجال تقديم الخدمات.
5- المشاركة مع نطاق واسع من أصحاب المصلحة خلال الفترة الانتقالية يزيد من شرعية الحكومة الجديدة ومن استدامة الإصلاحات: خلال الفترات الانتقالية تفتقر الحكومة الجديدة إلى الشرعية اللازمة لتنفيذ إصلاحات طويلة المدى، وتواصل الحكومة مع منظمات المجتمع المدني والأكاديميين، ومراكز البحوث، والجماعات الدينية، والجماعات الطلابية، يعد من الدروس الرئيسية المستفادة. فأي نظام سياسي منفتح وتشاركي يحتوي الجميع ويخضع للمساءلة، يستطيع أن يحقق التوافق الوطني المطلوب، وإثارة شعور الجماهير بالمسؤولية، وكسب مساندتهم لأولويات الإصلاح الوطني والأهداف الإنمائية.
6- الإجراءات المعتمدة على التشاور مع المستفيدين، من خلال لامركزية الإصلاحات والتنمية المدفوعة باعتبارات المجتمعات المحلية هي التي تكفل مشاركة المواطنين وتحسين الخدمات: وبالنظر إلى أن التحولات تستغرق وقتًا، فإنه يمكن للحكومات الجديدة أن تركز على تنفيذ برامج تعطي نتائج سريعة، كبرامج التنمية المدفوعة باعتبارات المجتمع المحلي، وعلاوة على ذلك، فقد يسهم اتباع الأساليب المعتمدة على التشاور مع المستفيدين، خلال عملية التحول، في مساعدة المواطنين على تحديد احتياجاتهم بأنفسهم، ويساعد على تدعيم المؤسسات المحلية، وإرساء أسس ثقة المواطنين في الحكومة.
وهناك آليات وأدوات مختلفة كثيرة يمكنها تعزيز المساءلة الاجتماعية، مثل: تعزيز إمكانية النفاذ إلى المعلومات، أو تعزيز وسائل الإعلام المستقلة، أو استخدام أدوات معينة، مثل هيئات المحلّفين المشكلة من المواطنين.
ولا شك في أن تطبيق المساءلة الاجتماعية في مصر يمكن أن يسهم في تدعيم التحول السياسي بالمنطقة بعدة طرق مهمة، منها:
1- أن يبعث برسالة مفادها أن الحكومة تريد أن تلتزم بمزيد من الشفافية والمساءلة، وتسمح للمواطنين بالنهوض بدور نشط في صياغة هذه الإصلاحات وتنفيذها.
2- أن يجعل السياسات أكثر اتصالا باحتياجات المواطنين، ويمكن أن يساعد توفير آليات المشاركة في حوار السياسات على الحد أيضًا من مخاطر عدم الاستقرار السياسي، حيث كان الإقصاء من أمور الحكم، من العوامل المهمة التي كانت سببًا لتفجر ثورة يناير.
3- تمكين المواطن من المطالبة بخدمات أفضل، وبالرقابة على استخدام الموارد العامة، وهو ما يضع المواطن في موقف يجعل منه عنصرًا مهمًّا في محاربة الفساد بالجهاز الحكومي والمحاباة وسيطرة النخبة، وكلها كانت من العوامل الرئيسية وراء تفجر ثورة يناير.